كتابُ حَبَقُّوق
ظهر حبقوق في أثناء السنوات الأخيرة قبل سقوط أُورشليم في سنة 586 ق. م.، وقد رأى بعين النبوءة، في أواخر القرن السابع، الدينونة الماحقة التي ستحل بيهوذا، وتساءل بانزعاج: لماذا سمح الله بشُيُوع الشر في أوساط يهوذا وكيف يرضى الله أن يستخدم أُمة وثنية كالبابليين لمعاقبة يهوذا على شرها. وقد أجاب الله عن حيرة حبقوق وكشف له عن أكثر مما طلب، إذ أعطاه رؤْيا عن ذاته المقدسة. هذه البصيرة الجديدة لإدراك ذات الله، وتبين النبي عجزه ونقصه أمام كمال الله، منحاه الشجاعة على تحمل نكبات تلك الأيام السود بقوة وتصميم. إن سيادة الله وافتقار الإنسان إلى الاتكال عليه هما محور رسالة هذا الكتاب الرائع. إن الله يتحكم بجميع الأُمم، ويجري ما يراه حقا، لهذا فإن الموقف السليم الذي يجب على الإنسان أن يتخذه هو الثقة به، وليس التشكك في عدله (2: 4). عندما يتخذ الإنسان هذا الموقف يمكنه آنئذ أن ينظر إلى ما هو أبعد من المظاهر الأليمة للأشياء ويتأمل في المعنى الحقيقي الأعمق لذات الله فيجد القوة على تحمل الظروف مهما كانت قاسية. نحن لا نعرف ما يضمره لنا الغد ولكن الله مطلع على المستقبل فعلينا أن نتكل عليه كل الاتكال.
١
١ هَذِهِ رُؤْيَا حَبَقُّوقَ النَّبِيِّ: ٢ إِلَى مَتَى يَارَبُّ أَسْتَغِيثُ وَأَنْتَ لاَ تَسْتَجِيبُ؟ وَأَصْرُخُ إِلَيْكَ مُسْتَجِيراً مِنَ الظُّلْمِ وَأَنْتَ لاَ تُخَلِّصُ؟ ٣ لِمَاذَا تُرِينِي الإِثْمَ، وَتَتَحَمَّلُ رُؤْيَةَ الظُّلْمِ؟ أَيْنَمَا تَلَفَّتُّ أَشْهَدُ أَمَامِي جَوْراً وَاغْتِصَاباً، وَيَثُورُ حَوْلِي خِصَامٌ وَنِزَاعٌ. ٤ لِذَلِكَ بَطَلَتِ الشَّرِيعَةُ، وَبَادَ الْعَدْلُ لأَنَّ الأَشْرَارَ يُحَاصِرُونَ الصِّدِّيقَ فَيَصْدُرُ الْحُكْمُ مُنْحَرِفاً عَنِ الْحَقِّ. ٥  تَأَمَّلُوا الأُمَمَ وَأَبْصِرُوا. تَعَجَّبُوا وَتَحَيَّرُوا لأَنِّي مُقْبِلٌ عَلَى إِنْجَازِ أَعْمَالٍ فِي عَهْدِكُمْ إِذَا حُدِّثْتُمْ بِهَا لاَ تُصَدِّقُونَهَا. ٦ فَهَا أَنَا أُثِيرُ الْكَلْدَانِيِّينَ، هَذِهِ الأُمَّةَ الْحَانِقَةَ الْمُنْدَفِعَةَ الزَّاحِفَةَ فِي رِحَابِ الأَرْضِ، لِتَسْتَوْلِيَ عَلَى مَسَاكِنَ لَيْسَتْ لَهَا. ٧ أُمَّةٌ مُخِيفَةٌ مُرْعِبَةٌ، تَسْتَمِدُّ حُكْمَهَا وَعَظَمَتَهَا مِنْ ذَاتِهَا. ٨ خُيُولُهَا أَسْرَعُ مِنَ النُّمُورِ، وَأَكْثَرُ ضَرَاوَةً مِنْ ذِئَابِ الْمَسَاءِ. فُرْسَانُهَا يَنْدَفِعُونَ بِكِبْرِيَاءٍ قَادِمِينَ مِنْ أَمَاكِنَ بَعِيدَةٍ، مُتَسَابِقِينَ كَالنَّسْرِ الْمُسْرِعِ لِلانْقِضَاضِ عَلَى فَرِيسَتِهِ. ٩ يُقْبِلُونَ جَمِيعُهُمْ لِيَعِيثُوا فَسَاداً، وَيَطْغَى الرُّعْبُ مِنْهُمْ عَلَى قُلُوبِ النَّاسِ قَبْلَ وُصُولِهِمْ، فَيَجْمَعُونَ أَسْرَى كَالرَّمْلِ. ١٠ يَهْزَأُونَ بِالْمُلُوكِ وَيَعْبَثُونَ بِالْحُكَّامِ. يَسْخَرُونَ مِنَ الْحُصُونِ، يُكَوِّمُونَ حَوْلَهَا تِلاَلاً مِنَ التُّرَابِ، وَيَسْتَوْلُونَ عَلَيْهَا. ١١ ثُمَّ يَجْتَاحُونَ كَالرِّيحِ وَيَرْحَلُونَ، فَقُوَّةُ هَؤُلاَءِ الرِّجَالِ هِيَ إِلَهُهُمْ. ١٢  أَلَسْتَ أَنْتَ مُنْذُ الأَزَلِ أَيُّهَا الرَّبُّ إِلَهِي، قُدُّوسِي؟ لِهَذَا لَنْ نَفْنَى. لَقَدْ أَقَمْتَ الْكَلْدَانِيِّينَ لِمُقَاضَاتِنَا وَاخْتَرْتَهُمْ يَاصَخْرَتِي لِتُعَاقِبَنَا. ١٣ إِنَّ عَيْنَيْكَ أَطْهَرُ مِنْ أَنْ تَشْهَدَا الشَّرَّ، وَأَنْتَ لاَ تُطِيقُ رُؤْيَةَ الظُّلْمِ، فَكَيْفَ تَحْتَمِلُ مُشَاهَدَةَ الأَثَمَةِ، وَتَصْمُتُ عِنْدَمَا يَبْتَلِعُ الْمُنَافِقُونَ مَنْ هُمْ أَبَرُّ مِنْهُمْ؟ ١٤ وَكَيْفَ تَجْعَلُ النَّاسَ كَأَسْمَاكِ الْبَحْرِ، أَوْ كَأَسْرَابِ الْحَشَرَاتِ الَّتِي لاَ قَائِدَ لَهَا؟ ١٥ إِنَّ الْكَلْدَانِيِّينَ يَسْتَخْرِجُونَهُمْ بِالشُّصُوصِ، وَيَصْطَادُونَهُمْ بِالشَّبَكَةِ، وَيَجْمَعُونَهُمْ فِي مِصْيَدَتِهِمْ مُتَهَلِّلِينَ فَرِحِينَ. ١٦ لِهَذَا هُمْ يُقَرِّبُونَ ذَبَائِحَ لِشِبَاكِهِمْ، وَيُحْرِقُونَ بَخُوراً لِمَصَائِدِهِمْ، لأَنَّهُمْ بِفَضْلِهَا يَتَمَتَّعُونَ بِالرَّفَاهِيَةِ وَيَتَلَذَّذُونَ بِأَطَايِبِ الطَّعَامِ. ١٧ أَمِنْ أَجْلِ هَذَا يَظَلُّونَ يُفْرِغُونَ شِبَاكَهُمْ وَلاَ يَكُفُّونَ عَنْ إِهْلاكِ الأُمَمِ إِلَى الأَبَدِ؟